فصل: تفسير الآية رقم (14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (14):

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14)}
قلت: {زُين}: بحذف الفاعل، وهو الله، حقيقة؛ إذ لا فاعل سواه، أو الشيطان، شَريعَةً؛ إذ هو منديل لمسح أوساخ الأقذار. والقنطار: المال الكثير، وقيل: مائة ألف دينار، وقيل: ملء مسك الثور. وروى عنه- عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «القنطار: ألف دينار»، وفي رواية: «ألفا دينار»، وفي عرفنا اليوم: ألف مثقال.
والمقنطرة: المنضدة بعضها فوق بعض، وسمي الذهب ذهباً؛ لذهابه وفنائه، أو لذهابه بالقلوب عن حضرة الغيوب، وسميت الفضة فضة؛ لأنها تَنْفَضُّ أي: تنفرق، أو تفرق القلوب لمن اشتغل بها. والمسوَّمة: المعلمة أو الراعية أو المطهمة الحسان.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {زُين للناس حب الشهوات} والركون إلى المألوفات، حتى صرفهم ذلك عن النظر والاعتبار، أو الشهود والاستبصار، وذلك لمن وقف مع متعتها، وغرته شهوة لذتها، وأما من ذكرته نعيم الجنان، وأعانته على طاعة الملك الديان، فلم يقف مع متعتها، ولا التفت إلى عاجل شهوتها، بل نزل إليها بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، فلا يشمله تحذير الآية؛ لقوله- عليه الصلاة والسلام-: «حُبِّبَ إلِيَّ من دنياكم ثلاث...» الحديث.
وقال بعض الأولياء: كل شهوة تحجب القلب عن الله، إلا شهوة الجماع يعني الحلال، وقال الورتجبي: ابتلاهم حتى يظهر الصادق بترك هذه الشهوات، من الكاذب بالشروع في طلبها، قيل: من اشتغل بهذه الأشياء قطعته عن طريق الحق، ومن استصغرها وأعرض عنها، عوض عليها السلامة منها، وفتح له الطريق إلى الحقائق. اهـ.
ثم بدأ برأس الشهوات فقال: {من النساء} وذلك لمن شُغف بهن فصرف عن ذكر الله، أو تناولهن على وجه الحرام. وفي الخبر عنه- عليه الصلاة والسلام-: «مَا تَرَكْتُ في الناس بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» وفي خبر آخر: «النظر إلى محاسن المرأة من سهام إبليس» ومَنْ ثَمَّ جُعِلْنَ في القرآن عين الشهوات، قال تعالى: {زيّن للناس حب الشهوات من النساء}.
وقال بعض العارفين: ما أيس الشيطانُ من إنسان قط إلا أتاه من قبل النساء. وقال عليّ رضي الله عنه: أيها الناس، لا تطيعوا للنساء أمراً، ولا تَدَعُوهُنَّ يدبرن أمر عيش، فإنهن إن تُرِكْنَ وما يُرِدْن أفسدن الملك، وعصَين المالك، وجدناهن لا دين لهن في خلَواتهن، ولا ورع لهن عن شهواتهن اللذة بهن يسيرة، والحيرة بهن كثيرة، فأما صوالحهن ففاجرات، وأما طوالحهن فعاهرات- أي: زانيات-، وأما المعصومات فهن المعدومات، يتظلمن وهن الظالمات، ويتمنعن وهن الراغبات، ويحلفن وهن الكاذبات، فاستعيذوا بالله من شرارهن، وكونوا على وجل من خيارهن، والسلام. اهـ.
{والبنين}: قال- عليه الصلاة والسلام-: «إنهم لثمرة القلوب، وقُرَّةُ الأعيُن، وأنهم مع ذلك لَمَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ مَحْزَنَةٌ»
{والقناطير المقنطرة}: أي: المجموعة المنضدة، {من الذهب والفضة. والخيل المسومة} أي: المعلمة: وهي البلق، أو غيرها، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «الخَيْلُ معقودٌ في نَواصِيها الخَيْرُ إلى يضوْمِ القِيَامةِ، الأجرُ والمَغْنمُ».
وعن أنس قال: (لم يكن شيء أحب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد النساء، من الخيل). وعن أبي وهب الجشمي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ارتبطوا الخيل، وامسحوا بنواصيها، وقَلِّدُوها، ولا تقلدوها الأوتار، وعليكم بكل كُمَيْت أغر مُحَجِّلِ، أو أشقر أغر محجل، أو أدهم أغر مُحَجَّل» وعن خباب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخيل ثلاثة: فرس للرحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان، فأما فرس الرحمن فما اتخذ لله في سبيل الله، وقوتل عليه أعداء الله، وأما فرس الإنسان فما استطرق عليه»- أي: ركب عليه في طريق حوائجه، وأما فرس الشيطان فما روهن عليه، وقومر عليه وفي البخاري ما يشهد لهذا.
ومما زُيِّن للناس أيضاً: حب {الأنعام}، وهي الإبل والبقر والغنم، إن شغلته عن ذكر الله، ومنع منها حق الله، {والحرث} أي: الزراعة والغراسة، {ذلك} الذي ذكرت {متاع الحياة الدنيا} الفانية الزائلة، {والله عنده حسن المآب}، أي: المرجع في دار البقاء التي لا يفنى نعيمها، ولا تنقطع حياتها إلى أبد الأبد.
الإشارة: كل ما يقطع القلبّ عن الشهود، أوُ يُفَتِّرُهُ عن السير إلى الملك المعبود، فهو شهوة، كائناً ما كان، أغياراً أو أنواراً، أو علوماً أو أحوالاً، أو غير ذلك، فالنساء الأغيار، والبنون الأنوار، والقناطير المقنطرة من الذهب علوم الطريقة، والفضة علوم الشريعة، والخيل المسومة هي الأحوال، والأنعام الأذكار، والحرب استعمال الفكرة. فكل مَنْ وقف مع حلاوة شيء من هذا، ولم يُفْضِ إلى راحة الشهود والعيان، فهي في حقه شهوة.
وبعد أن ذكر الحق تعالى أنواعاً من الشهوات، زَهَّدَ فيها فقال: {ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} قال أبو هاشم الزاهد رضي الله عنه: وَسَمَ اللّهُ الدنيا بالوحشة؛ ليكون أنس المريد بربه دونها، وليقبل المطيعون بالإعراض عنها، وأهلُ المعرفة بالله من الدنيا مستوحشون، وإلا الله مشتاقون. اهـ.
وقد تعوّذ النبيّ صلى الله عليه وسلم من شر فتنتها، غناها وفقرها. وأكثرُ القرآن مشتملٌ على ذمها، وتحذير الخلق منها، بل ما من داع يدعو إلى الله تعالى إلا وقد حذر منها، ورغَّب في الآخرة، بل هو المقصود بالذات من بيان الشرائع، وكيف لا- وهي عدوة الله؛ لقطعها طريق الوصلة إليه، ولذلك لم ينظر إليها منذ خلقها. وعدوة لأوليائه؛ لأنها تزينت بزينتها حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها، وعدوة لأعدائه؛ لأنها استدرجتهم بمكرها، واقتنصتهم بشبكتها، فوثقوا بها، فخذلتهم أحوج ما كانوا إليها، كفانا الله شرّها بمنِّه وكرمه.

.تفسير الآيات (15- 17):

{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)}
قلت: {للذين}: خبر، و{جنات}: مبتدأ، وهو استئناف لبيان الخيرية، والرضوان فيه لغتان: الضم والكسر، كالعدوان والطغيان، و{الذين يقولون}: بدل من {الذين اتقوا}، أو خبر عن مضمر، أو منصوب على المدح، أو بدل من العباد، و{الصابرين} وما بعده: نعت الموصول.
يقول الحق جلّ جلاله: {قل} يا محمد: أأخبركم {بخير} من الذي ذكرتُ لكم من الشهوات الفانية واللذات الزائلة، وهو ما أعد الله للمتقين عند لقاء ربهم، وهو {جنات تجري من} تحت قصورها الأنهار؛ من الماء واللبن والعسل والخمر، {خالدين فيها}، لا كنعيم الدنيا الفاني، {ولهم فيها أزواج} من الحور العين، مطهرات من الحيض والنفاس وسائر المستقذرات، {ورضوان من الله} الذي هو {أكبر} النعم.
فانظر: كيف ذكر الحقّ- جلّ جلاله- أدنى النعيم وأوسطه وأعلاه؟ فأدناه: متاع الدنيا الذي زُين للناس، وأوسطه: نعيم الجنان، وأعلاه: رضي الرحمن، وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ الله تعالى لأهِلْ الْجنَّةِ: يَا أهْلَ الجَنَّةِ، فيقول أهْلَ الجَنَّةِ: لَبْيكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكِ، والخير في يديك، فيقول: هَلْ رضِيتُم؟ فَيَقُولُونَ: مَالنَا لاَ نَرْضى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا ما لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنْ العالمين، فَيَقُولُ: ألا أعْطِيكُم أَفْضَلَ من ذلك؟ فيقُولون: يا ربنا، وأيُّ شَيء أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ قال: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رَضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُم َبَداً».
{والله بصير بالعباد}؛ لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، فيثيب المحسن، ويعاقب المسيء، أو: {بصير} بأحوال المتقين.
{الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار}. وفي ترتيب السؤال على مجرد الإيمان دليل على أنه كاف في استحقاق المغفرة والاستعداد لها.
ثم وصف المتقين بقوله: {الصابرين} على أداء الأمر واجتناب النهي، وفي البأساء والضراء وحين البأس، {والصادقين} في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فاستوى سرهم وعلانيتهم، {والقانتين} أي: المطيعين، {والمنفقين} أموالهم في سبيل الله، {والمستغفرين بالأسحار}؛ لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة؛ لأن العبادة حينئذٍ أشق، والنفس أصفى، والروح أجمع، ولاسيما للمتهجدين.
قيل: إنهم كانوا يُصلُون إلى السحر، ثم يستغفرون ويدعون، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى يقول: إني لأهُمُّ بأهل الأرض عذاباً، فإذا نظرت إلى عُمَّار بيوتي، وإلى المتهجدين، وإلى المتحابين فِيَّ، وإلى المستغفرين بالأسحار، صرفت عنهم العذاب».
وقال سفيان: إن لله ريحاً يقال لها الصيحة، تهبُّ وقتَ السحر، تحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار. قال: وبلَغنا أنه إذا كان أولا لليل، نادى مناد: ألا ليقم القانتون، فيقومون يُصلون إلى السحَر، فإذا كان وقت السحر، ينادي منادٍ: أين المستغفرون بالأسحار؟ فيستغفر أولئك، ويقوم آخرون، ويُصلون، فيلحقون بهم، فإذا طلع الفجر، نادى منادٍ: ألا ليقم الغافلون، فيقومون من فرشِهم كالموتى إذا نُشروا من قبورهم.
الإشارة: للذين اتقوا شهودَ السّوى عند ربهم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، وأصناف الحكم، مطهرة من العلل، منزهة من الخلل، تهب عليهم نسيم الرضوان، تحمل الرَّوُحَ والريحان، مخلدون في نعيم الشهود والعيان، والله بصير بعباده المخلصين، المنزَّهين من العيوب، المبررَّئين من درن الذنوب، الصابرين على دوام المجاهدة، والصادقين في طلب المشاهدة، والقانتين لأحكام العبودية، والمنفقين أنفسَهُمْ ومُهَجَهم في طلب مشاهدة أنوار الربوبية، والمستغفرين من شهود الأغيار، وخصوصاً إذا هبّ نسيم الأسحار، فإن كثيراً من العباد والزهاد شغلتهم حلاوة نسيم الأسحار عن مطالعة أسرار الجبار، وهي أسرار التوحيد.

.تفسير الآيات (18- 19):

{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)}
قلت: {قائماً}: حال مِن {الله}، وإنما جاز من بعض المعطوفات لعدم اللبس، كقوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً...} [الأنبيَاء: 72]، ولا يجوز: جاء زيد وعمر راكباً؛ لعدم القرينة، أو مِن {هو}، والعامل الجملة؛ لأنه حال مؤكدة، أي: تفرد قائماً، أو حقه قائماً، {بالقسط} أي: العدل، و{إن الدين}: جملة مستأنفة مؤكدة للأولى، أي: لا دين مرضى عند الله سوى الإقرار بالشهادة والدخول فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ومن قرأ بالفتح فهو بدل من {أنه}، بدل الكل، إن فسر الإسلام بالإيمان، وبدل الاشتمال إن فسر بالشريعة.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} أي: بيَّن وحدانيتَه بنصب الدلالئل الدالة عليها وإنزال الآيات الناطقة بها، أو بتدبيره العجيب وصنعته المتقنة وأموره المحكمة، وفي ذلك يقول القائل:
يَا عَجَباً كيف يُعْصَى الإلهُ ** أم كيف يَجْحَدُه الجاحدُ

وللهِ في كل تحريكةٍ ** وتسكينةٍ أبداً شاهدُ

وفي كُلِّ شَيءٍ له آيةٌ ** تَدُلُّ على أنَّه واحِدُ

وقيل لبعض العرب: ما الدليل على أن للعالم صانعاً؟ فقال: البعرة تدل على البعير، وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة، أمَا يدلان على الصانع الخبير؟!
{و} شهدت {الملائكة} أيضاً بالإقرار بالوحدانية والإخبار بها، {وأولوا العلم} وهم: الأنبياء والعلماء بالله، بالإيمان بها والاحتجاج عليها، شبه ذلك في البيان والكشف بشهادة الشاهد. وفيه دليل شرف أهل العلم وفضلهم، حيث قرن شهادتهم بشهادته؛ لأن العلم صفة الله العليا ونعمته العظمى، والعلماء أعلام الإسلام، والسابقون إلى دار السلام، وسُرج الأمكنة وحجج الأزمنة.
وعن جابر قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «سَاعَةٌ مِنْ عَالمِ يتَّكِئ على فِرَاشِهِ، ينظُرُ في علمهِ، خَيرٌ مِنْ عِبَادَة العَابِد سَبعينَ عاماً» وعن معاذ قالَ: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشيةٌ، ومدارستَه تسبيحٌ، والبحث فيه جهادٌ، وتعليمه مَنْ لا يعلمه صدقةٌ، وتذكُّره في أهله قُرْبَة» ثم قال في آخر الحديث في فضل أهل العلم: «وتَرْغَبُ الملائكة في خُلتِهم، وبأجنحتها تمسحُهم، وفي صلاتها تستغفر لهم، وكلُّ رطب ويابس يستغفر لهم. حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع الأرضين وأنعامها، والسماء ونجومها، ألا وإن العلم حياةُ القلوب من العمى، ونورُ الأبصار من الظلم، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منزل الأحرار ومجالسة الملوك، والفكر فيه يُعْدل بالصيام، ومدارسته بالقيام، وبه يُعرف الحلال والحرام، وبه تُوصلَ الأرحام، العلم إمام والعمل تابعه، يُلْهَمُه بالسعداء، ويُحْرَمه الأشقياء».
حال كون الحقّ تعالى {قائماً بالقسط} أي: مُدبراً لأمر خلقه بالعدل، فيما حكم وأبرم، {لا إله إلا هو}، كرر الشهادة للتأكيد، ومزيد الاعتبار بأمر التوحيد، والحكم به، بعد إقامته الدليل.
عليه وقال جعفر الصادق: (الأُولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم). أي: قولوا: {لا إله إلا هو}، أو ليرتب عليه قوله: {العزيز الحكيم}، فيعلم أنه الموصوف بهما، وقدَّم {العزيز} ليتقدم العلم بقدرته على العلم بحكمته.
{إن الدين عند الله الإسلام} أي: إن الدين المرضى عند الله هو الانقياد لأمر التوحيد والإذعان لمن جاء به. ورُوِيَ عن أنسَ رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من قرأَ هذه الآيةَ عند منامه خَلَقَ اللَّهَ تعالى سبعين ألف خَلْقٍ يستغفرون الله له إلى يوم القيامة» وهي أعظم شهادة في كتاب الله، من قرأها إلى {الحكيم} وقال: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودِعُ اللّهَ هذه الشهادة، وهي لي عند الله وديعة، يقول الحق تعالى: إن لعبدي هذا عندي عهداً وأنا أحقُّ مَنْ وفى بالعهد، أدخِلوا عبدي الجنة.
الإشارة: صدرُ الآية يشير إلى الفرق، وعَجُزُها يشير إلى الجمع، كما هي عادته تعالى في كتبه العزيز، يشرع أولاً، ويُحَقِّق ثانياً، فأثبت الحق- جلّ جلاله- شهادة الملائكة وأولى العلم مع شهادته؛ لإثبات سر الشريعة، ثم محاها بقوله: {لا إله إلا هو العزيز الحكيم} بحكم الحقيقة. فإثبات الرسوم شريعة، ومحوها حقيقة، فتوحيد أهل الرسوم والأشكال دلالة من وراء الحجاب، وتوحيد أهل المحو والاضمحلال شهادة من داخل الحجاب، وتوحيد أهل الرسوم دلالة وبرهان، وتوحيد أهل المحو شهادة وعيان، أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان. إثبات الرسوم إسلام وإيمان، ومحوها شهود وإحسان، وكل توحيد لم تظهر ثمرته على الجوارح من الإذعان والانقياد لأحكام العبودية فهو مخدج، لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عِمرَان: 19] أي، الانقياد والإذعان، ظاهراً وباطناً، لأحكام القهرية والتكليفية، فمن لا انقياد له لا دين له كاملاً.
ثم ذكر من سبق له الخذلان بعد سطوع الدليل والبُرهان، فقال: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب}
قلت: {بغياً}: مفعول له، علة للاختلاف.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وما اختلف} اليهود والنصارى في حقيقة الإسلام والتدين به، {إلا من بعد ما جاءهم العلم} أي: من بعد ما تمكنوا من العلم بصحته، وأن الدين عند الله هو الإسلام، فجحدوه ظلماً وحسداً. أو ما اختلف أرباب الكتب المتقدمة في دين الإسلام؛ فأثبته قوم، وقال قوم: إنه مخصوص بالعرب، ونفاه آخرون مطلقاً، إلا من بعد ما ثبت لهم بصحته وعموم الدعوة له. أو في التوحيد؛ فثلث النصارى، وقالت اليهود: عزير ابن الله، بعد ما صح لهم العلم بالتوحيد فغيروا. وقال الربيع: إن موسى عليه السلام لما حضره الموت، دعا سبعين حبراً من قومه، فاستودعهم التوراة، فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت بينهم الفرقة، وهم: الذين أوتوا الكتاب من أبناء السبعين، فأراقوا الدماء ووقع بينهم الشر والاختلاف.
وذلك من بعد ما جاءهم العلم، يعني بيان ما في التوراة، {بغياً بينهم} أي: طلباً للملك والرئاسة والتحاسد، فسلّط عليهم الجبابرة، {ومن يكفر بآيات الله} المنزلة على رسوله، أو الدالة على وحدانيته، {فإن الله سريع الحساب}؛ لا يشغله شأن عن شأن، وفيه تهديد لأهل الاختلاف.
الإشارة: الاختلاف على الصوفية، والإنكار عليهم، إن كان بغياً وحسداً وخوفاً على زوال رئاسة المنكر، فهذا معرض لمقت الله، فقد آذن بحرب الله، وبالُه سوء الخاتمة، والعياذ بالله، وفي ذلك يقول القائل:
هِمَمُهُمْ تَقْضِي بحُكْ الوَقْتِ ** مُنِكِرُهُم مُعَرَّضٌ للمٌقْتِ

وإن كان غيره على الشريعة، وسدّاً لباب الذريعة، فهذا معذور أو مأجور إن صح قصده، وهو منخرط في سلك الضعفاء، قال تعالى: {يْسَ عَلَى الضُّعَفآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِيدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91]، ولا ينكر على الفقير إلا المُحرَّم المجمع على تحريمه، وليس فيه تأويل، كالزنى بالمعينة، واللواط وشبهه، والمؤمن يلتمس المعاذر، والمنافق يلتمس العيوب، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق.